Monday, March 23, 2009

المحكمة الجنائية والمبررات القانونية ،،،،بقلم المستشار ماجد الشربينى

مجلة المصداقية
القاهرة

مبررات الطعن على قرار المحكمة الجنائية الدولية بشأن اعتقال الرئيس السوداني عمر البشير
مما لا شك فيه أن القرار الذي أصدرته المحكمة الجنائية الدولية في 3 من مارس الماضي بشأن اعتقال الرئيس السوداني عمر حسن البشير وملاحقته يعد سابقة خطيرة في منظومة العلاقات الدولية، لأنه يأتي لأول مرة لوقف رئيس عربي أفريقي ما زال في الحكم والسلطة، وهو أمر لا يتفق مع أحكام القانون الدولي العام لعدة اعتبارات نبرز أهمها على النحو التالي:
أولاً- قرار الاعتقال يتعارض مع القواعد المستقر عليها في القانون الدولي العام :
لقد أنشئت المحكمة الجنائية الدولية بموجب اتفاقية دولية ملزمة للأطراف التي صدقت علي الانضمام إليها دون غيرها، هذه الاتفاقية معروفة باسم "نظام روما الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية". وقد صدقت على هذه المعاهدة (106) دولة حتى عام 2008م ليس من بينها من الدول العربية سوى دولتان، هما: المملكة الأردنية الهاشمية وجمهورية جيبوتي.
والمستقر عليه في قواعد القانون الدولي العام أن المعاهدات الدولية لا تسري إلا علي الدول الأطراف فيها. وأنه لا يمكن إجبار دولة علي الالتزام بأحكام المعاهدة، أو الخضوع لها، دون أن تكون طرفًا فيها.
والحقيقة أن النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لم يخرج على قواعد القانون الدولي في شأن اقتصار آثار المعاهدات علي أطرافها، وهذا ما نلحظه في أكثر من نص من نصوص النظام الأساسي، فقد نص في مادته الثانية علي أن الدول الأطراف بالاتفاقية تعتمد فيما بينها اتفاق تنظيم العلاقة بين المحكمة والأمم المتحدة، ونص في مادته الرابعة علي أن للمحكمة أن تمارس وظائفها ومسئوليتها علي النحو المنصوص عليه في هذا النظام الأساسي في إقليم أي دولة طرف، كما نص في المادة (11) علي أنه إذا أصبحت أي دولة من الدول طرفًا في هذا النظام الأساسي بعد بدء نفاذه، لا يجوز للمحكمة أن تمارس اختصاصها إلا فيما يتعلق بالجرائم التي ترتكب بعد بدء نفاذ هذا النظام بالنسبة لتلك الدولة.
بل والأكثر من ذلك سنلحظ أن نصوص النظام الأساسي للمحكمة لا يوجد بها نص واحد يعطي للمحكمة ولاية علي مكان أو شخص لا يحمل جنسية إحدى الدول الأعضاء في الاتفاقية الخاصة بإنشاء المحكمة الجنائية الدولية، ومن ثم فإن ملاحقة الرئيس البشير أو محاكمته بالمحكمة الجنائية الدولية أمر يتعارض مع القواعد المستقر عليها في القانون الدولي العام.
ثانياً- بطلان قرار مجلس الأمن رقم 1593 الذي أحال قضية دارفور إلى المدعي العام بالمحكمة الجنائية الدولية :
وفي هذا السياق نشير إلى أن إحالة قضية دارفور من مجلس الأمن هي من وجهة نظر جانب كبير من فقهاء القانون الدولي العام إحالة من لا يستحق إلى من لا يملك، إذ لا تشكل حالة دارفور تهديداً للأمن والسلم الدوليين، ولا ولاية لمجلس الأمن على الحركات المسلحة والقوات المسلحة، ومن ثم فإن القضية في الأساس لا تعدو أن تكون مجرد نزاع مسلح داخل دولة واحدة وليس بين دول، مما دفع البعض إلى التمسك ببطلان قرار مجلس الأمن رقم 1593 الذي قضى بتسليم المشتبه بهم في دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية.
كذلك فإن هذه الإحالة التي وجهت إلى المحكمة من مجلس الأمن وفقا للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، تأتي ضد دولة غير عضو في اتفاقية روما الخاصة بالمحكمة الجنائية الدولية، لذا كان من الأولى أن يكون القرار الصادر عن مجلس الأمن محكوماً بإطار الاتفاقية التي تطبق على الدول الأعضاء الموقعة على الاتفاقية، وكان أجدى بالمجلس إصدار قرار بتشكيل محكمة جنائية خاصة، أسوة بما فعله في العديد من القضايا، وهو ما يجوز في حال الدول غير المنضمة للاتفاقية.
أضف إلى ما سبق أن تنفيذ قرار الاعتقال الصادر بشأن الرئيس السوداني عمر البشير عن طريق مجلس الأمن أمر غير متصور من الناحية القانونية لأنه لا علاقة بين الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية سوى ما تقرر في نظامها الأساسي من دور لمجلس الأمن في الإحالة والتأجيل، ومن الصعب أن يتدخل المجلس من الناحية القانونية أسوة بما هو حادث في حالات محكمة العدل الدولية لسبب بسيط وهو أن نظام محكمة العدل جزء من ميثاق الأمم المتحدة، وان عضوية الدولة في نظام المحكمة اثر من آثار عضويتها في الأمم المتحدة، كما أن الميثاق ينص صراحة على دور للمجلس في تنفيذ قرارات محكمة العدل الدولية، وفي هذا اختلاف واضح عن الوضع بالنسبة للمحكمة الجنائية الدولية.
ثالثاً- قرار الاعتقال يتناقض مع نصوص النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية :
لقد نصت المادة (27) من النظام الأساسي للمحكمة على: "أن الصفة الرسمية للشخص، سواء كان رئيساً لدولة أو لحكومة أو عضواً في حكومة أو برلمان أو ممثلاً منتخباً أو موظفاً حكومياً، لا تعفيه بأي حال من الأحوال من المسئولية الجنائية بموجب هذا النظام الأساسي".
ولما كانت المحكمة الجنائية الدولية قد استندت في قرارها باعتقال الرئيس البشير على هذه المادة، فهي حجة على من اعتمدوا عليها لا لحجة لهم، ولا يمكن بأي حال من الأحوال التعويل عليها لملاحقة الرئيس السوداني، وسندنا في ذلك أن المادة المذكورة تقطع الشك باليقين في أن مجال إعمال حكمها قاصر على الدول الأطراف في النظام الأساسي للمحكمة، إذ تنطبق على المسئولين بتلك الدول ولا تنطبق على غيرهم.
وهنا نعود للتأكيد مرة أخرى على أن السودان ليست طرفاً في نظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وبالتالي لا تسري عليها أحكامها، ومن ثم فإن أبناء السودان سواء المسئولين منهم أو حتى المواطنين العاديين، لا يمكن بحال من الأحوال أن تنطبق عليهم نصوص نظام المحكمة الجنائية الدولية.
رابعاً- قرار الاعتقال يتعارض مع الاتفاقيات والأعراف الدولية الخاصـة بالحصانات الرئاسية :
يتمتع الرئيس السوداني عمر البشير بحصانة رئاسية لا يمكن رفعها إلا وفقاً للدستور السوداني، وليس هذا في السودان وحدها، وإنما هو أمر ثابت في مختلف الدول وفي النظم الدستوريـة المعاصرة التي تعتبر رئيس الدولـة رمزاً لسيادتها، وقمة هرم السلطـة القانونية فيها، والمسئول الأول على سلامة أمنها واستقرارها، والممثل القانوني لتصرفاتها علي الساحة الدولية، لإبرام المعاهدات والاتفاقيات في حالة الحرب والسلم، وذلك وفقا لإحكام اتفاقية (فينا) للعلاقات الدوليـة لسنة 1961م، وإعـمالاً للأعراف الدولية المستقرة والملزمة، والتي تعتبر بإجماع الآراء هي المصدر الأول من مصادر القانون الدولي العام.
فقد استقر العرف الدولي على أن لرؤساء الدول حصانة تحول دون تقديمهم للمحاكمة أثناء تأدية واجبهم الوظيفي، بل إن هذه الحصانة الوظيفية تمتد لتشمل رؤساء الوزارات والسادة الوزراء، وهناك من السوابق القضائية ما يدعم هذه الوجهة من النظر، إذ رفضت محكمة العدل الدولية – في سابقة دولية شهيرة – رفع الحصانة عن وزير خارجية جمهورية الكونغو الديمقراطية في النزاع بين جمهورية الكونغو وبلجيكا، وكان ذلك في شهر يونيو من سنة 2002م، حيث أسس قضاة المحكمة قرارهم بأن العرف الدولي قد استقر على ذلك.
وبناء عليه، إذا كانت الحصانة قد لحقت بوزير خارجية إحدى الدول، فإنه من باب أولى يمتنع رفع الحصانة عمن عينه في هذا المنصب وهو رئيس الدولة، وهذا يتأكد معه أن قرار إحالة مسألة الرئيس البشير من قبل مجلس الأمن فيه مخالفة صريحة لسابقة قضائية صدرت عن أعلى جهة قضائية في المجتمع الدولي.
ويضاف إلى ما تقدم أن الحصانة الرئاسية تحول دون محاكمة رئيس أي دولة أمام المحكمة الجنائية الدولية ما لم يكن هناك تعديل دستوري يسمح بإجراء هذه المحاكمة. وما نقوله ليس فرضاً نظرياً بحتاً، وإنما هو أمر كشف عنه التطبيق العملي، فالملاحظ أن العديد من الدول التي صدقت على اتفاقية روما لجأت إلى تعديل دساتيرها بما يسمح بإجراء محاكمات لرؤسائها أمام المحكمة، وذلك بعدما أبدت مجالسها الدستورية تحفظات علي ملاحقة رؤساء الدول بالمخالفة للنصوص الدستورية التي تحول دون ذلك، وهكذا ارتأى القائمون على أمر التشريع في هذه الدول أن إعمال أحكام النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية يقتضي إجراء تعديلات دستورية، وهو ما تم بالفعل في كل من فرنسا وبلجيكا، إذ أوصى المجلس الدستوري الفرنسي في 22 من يناير سنة 1999م بتعديل الدستور الفرنسي لتواكب مع أحكام النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وهو ما تحقق بالفعل من خلال التعديلات التي أدخلت على الفقرة الثانية من المادة (53) من الدستور الفرنسي والتي نصت صراحة على أن: "حصانة الرئيس لا تحميه من المحاكمة أمام المحاكم الجنائية الدولية ولا يمكن الدفع بها في وجه اختصاص هذه المحاكم على أنواعها. كما لا يمكن الدفع بها لمنع تطبيق القواعد والأصول المتعلقة بمحاكمة الجرائم التي تحمل اعتداء على الأمن والسلم الدوليين"، وكذلك أوصى مجلس الدولة البلجيكي في 21 من ابريل من سنة 1999م بذات التعديل، وهو ما تحقق في تاريخ لاحق.
ومعنى ما تقدم، أنه حتى على فرض أن دولة السودان الشقيق كان قد صدقت على اتفاقية روما، وأنها عضو في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، فإن ذلك كان سيستتبع إجراء تعديلات جوهرية في الدستور السوداني قبل أن يصبح نظام المحكمة نافذاً في حق المسئولين بها.
خامساً- قرار الاعتقال فيه مساس بالسيادة الوطنية للسودان :
يقوم اختصاص المحكمة الجنائية الدولية على فكرة أنها لا تحل محل الدول الأعضاء في التحقيق أو مقاضاة مرتكبي الجرائم، وإنما اختصاصها يكمل اختصاص هذه الدول. والواقع أن هذه الفكرة تم ابتداعها للتغلب على معارضة الدول المشاركة التي رأت في اختصاص المحكمة الجنائية الدولة مساساً بسيادتها الوطنية واعتداءً على اختصاصات سلطاتها القضائية.
وتأكيداً هذا المعنى، أشارت الفقرة العاشرة من ديباجة النظام الأساسي أن المحكمة الجنائية الدولية ستكون مكملة للولايات القضائية الجنائية الوطنية، كما نصت الفقرة (أ) من المادة (17) من ذات النظام على أن: "المحكمة الجنائية الدولية لا تحل محل الاختصاصات القضائية الوطنية، وإنما تتدخل حصراً حيثما لا تتوفر لدى الدول الرغبة في الاضطلاع بالتحقيق وبالمقاضاة أو القدرة على ذلك".
ومفاد ما تقدم أن القضاء الدولي قضاء تكميلي إذا لم تتحقق العدالة الوطنية، وأن قضاء المحكمة الجنائية الدولية مكمل للقضاء الوطني وليس بديلاً عنه، ولذلك ينعقد الاختصاص للقضاء الوطني أولا، فإذا لم يباشر الأخير اختصاصه بسبب عدم الرغبة في إجراء المحاكمة أو عدم القدرة عليها، يأتي دور المحكمة الجنائية الدولية.
ولما كان من الثابت أن الحكومة السودانية قد نجحت في وضع حد للوضع المتردي في إقليم دارفور سواء باتفاق المصالحة أو البدء في تنمية الإقليم، كما أن القضاء السوداني قد قام وما يزال – بسند من الدستور والقانون – بإجراء التحقيقات والمحاكمات فيما يتعلق بالأحداث التي وقعت في الإقليم، فإنه لا مجال للمحكمة الجنائية الدولية التي تكون بالقرار الصادر عنها قد تعدت بشكل مباشر على اختصاصات السلطة القضائية بالسودان، ومن ثم مست سيادة الدولة بالمخالفة لأحكام القانون الدولي العام.
- ختاما ً:
وحاصل ما سبق، أن قرار المحكمة الجنائية الدولية يتعارض بشكل صارخ مع قواعد القانون الدولي والنظام الأساسي للمحكمة ذاتها ومع الحصانات الرئاسية المقررة بموجب اتفاقات دولية ونصوص دستورية، مع الأخذ في الاعتبار أن الحصانة الرئاسية ليست ترفاً أو ميزة شخصية ولكنها مسئولية جسيمة لتحصين الدولة والقيام بمهام سيادية ودستورية .
وأمام الوضع الراهن، يبقى لفت الانتباه إلى ضرورة مخاطبة المجتمع الدولي بما يفهمه من لغة القانون ، كما يلزم اتخاذ كافة الإجراءات القانونية التي تكفل حفظ حقوق السودان ورئيس دولته، وعلى المجتمع العربي والأفريقي دور في حشد أصحاب الخبرة من رجال القانون والدبلوماسية لخوض معركة موازية ضد قرار المحكمة بجوار الموقف الشعبي الرافض للقرار .
القاهرة في 23 مارس 2009م

0 comments:

Post a Comment