Friday, June 26, 2009

الفصام رياضيا وسياسيا ومصريا


نشعلقت
المصداقية - قسم التحليل السياسى
اشراف جرمين نصيف
أبصار جميع العرب في الفترة الماضية بحدثين هامين: أحدهما حدث رياضي والآخر حدث سياسي؛ الحدث الرياضي كان خوض منتخب مصر بطولة كأس العالم للقارات ومقارعته لكبار المنتخبات هناك حيث تعلقت عليه آمال العرب من المحيط إلى الخليج خاصة بعد فوزه على إيطاليا بطل كأس العالم، أما الحدث السياسي فكان الانتخابات الإيرانية وما شهدتها من مناظرات ثم تجاوزات ثم تظاهرات هددت كيان النظام القائم في إيران والذي ترسخت أقدامه منذ ثورة عام 1979.
فعلى الصعيد الرياضي اعتبر الكثيرون من العرب أن منتخب مصر القومي هو رمز للانتصارات العربية المفقودة على الساحة السياسية؛ حيث استعاضت الشعوب العربية بالرياضة للتنفيس عن غضبها المكبوت في المجالات السياسية والعسكرية، حيث نقلوا رهانهم ـ بعد أحداث غزة ـ من الجيش المصري إلى المنتخب المصري، وتابع العرب من المحيط إلى الخليج أداء مصر في بطولة كأس العالم للقارات من ذكرهم لأنثاهم، من شيبهم لشبابهم، بعد أن باتت الرياضة ساحة للنزال بدلاً من ساحات الوغى بل وبدلاً من التنافس في ساحات الانتخابات؛ حيث يتم ممارسة تلك الانتخابات في الرياضة أيضًا وباتت الشعوب العربية تهتم بانتخابات الأندية وبانتخابات الاتحادات الرياضية، بل ومارست فيها الشعوب "الديموقراطية" الحقيقية بإشرافات قضائية وبصناديق زجاجية وبأحبار على الأصابع من أجل ضمان الشفافية وعدم التزوير، وبدا أن الشعوب تحولت إلى الانتخابات الرياضية لتفريغ كافة طاقاتها السياسية المكبوتة فيها.
وقد استفاد الإعلام بدوره من تلك الفورة في عالم الرياضة فخرجت علينا عشرات الصحف الرياضية الأسبوعية واليومية، وعشرات القنوات الرياضية المتخصصة والمشفرة وعشرات البرامج الرياضية في داخل القنوات المنوعة، وعشرات المواقع الإليكترونية الرياضية والتي تتصدر ترتيب الواقع العربية، لتصبح الرياضة ظاهرة جاذبة لطاقات العرب، وأصبح هناك "حراكًا رياضيًا" عوضًا عن الحراك السياسي، لذا كان الفرح عظيمًا عندما يفوز منتخب البلاد أو النادي الأكثر شعبية، كما أن الحزن يكون عظيمًا أيضًا عندما يخسر الفريق القومي في مبارايات رسمية أو ودية، وذلك لأن الرياضة أصبحت تمثل الكبرياء القومي وأصبحت تمثل البديل عن السياسة وعن الحروب العسكرية أيضًا بعد أن صدأت معداتنا العسكرية في مخازنها، ونحن نتفرغ لمشاهدة البطولات الرياضية مثلما تفرغنا من قبل لمشاهدة المذابح ضد إخواننا المسلمين في غزة على الهواء مباشرة.
وعلى الضفة الأخرى من الخليج كان الشعب الفارسي يخوض انتخابات رئاسية شهدت معارك ومناظرات مفتوحة بين مرشحي الرئاسة الثلاثة، وتبادل الأطراف الاتهامات على رؤوس الأشهاد، وكانت تلك المناظرات ترسل في بث حي وعلى الهواء مباشرة أيضًا، ولكن لأهم القنوات الفضائية الأجنبية وعلى رأسها سي إن إن وفي وقت الذروة، وحظيت تلك الانتخابات الرئاسية الإيرانية بتغطية إعلامية غربية غير مسبوقة، ثم حدث ما حدث في الانتخابات وخرجت تظاهرات أنصار موسوي لتجذب أنظار العالم، ومن بعدها خطبة خامنئي التي بثت على الهواء في أكبر القنوات الإخبارية العالمية، في سابقة لا أظنها يمكن أن تتكرر لأي خطبة لزعيم عربي.
وفي خضم فورة الانتخابات الإيرانية جاءت "نكسة" الهزيمة المصرية من الولايات المتحدة في كأس العالم للقارات والتي فجرت براكين الغضب بين المصريين؛ حيث عبر بعض الصحفيين قبل المباراة عن رغبتهم في فوز الفريق المصري على نظيره الأمريكي فقط من أجل ما يفعله الأمريكيون بالمسلمين في العراق وأفغانستان وفلسطين، وقال آخر أن المصريين يجب أن يلقنوا الأمريكان درسًا ويهزمونهم شر هزيمة؛ حتى لو كان ذلك في الساحات الخضراء وليس في ساحات الوغى، ولكن جاءت الهزيمة بمثابة الإفاقة للكثيرين من حلمهم بعد أن كانوا يمنون أنفسهم بالفوز على الولايات المتحدة حتى ولو في كرة القدم.
أما في إيران فقد نزل الشعب الإيراني إلى الشوارع ساخطًا وباحثًا عن أصواته التي تم تزويرها، ونزلت قوات الباسيج على دراجاتهم النارية تطارد الشعب وتمنعه من التظاهر، ولكن ذلك لم يمنع الآلاف من التعبير عن غضبهم، وقام الإيرانيون بتصوير تجاوزات الشرطة الإيرانية والحرس الثوري وقاموا بنشرها على صفحات الإنترنت وبثها إلى الفضائيات الغربية، بالرغم من الحصار الإعلامي والتقني الذي فرضته الحكومة الإيرانية على الإنترنت وخطوط الجوال لمنع تسريب تلك الصور، وبالرغم من وحشية الباسيج والتهديد بـ "رد ثوري" على التظاهرات، ظل الناس في الشوارع بحثًا عن حقوقهم المهدرة في صناديق الانتخابات.
ثم لننقل أبصارنا مرة ثانية إلى الجانب الآخر من الخليج؛ حيث قام أكبر المسئولون في مصر باستقبال الفريق القومي العائد من جنوب إفريقيا ـ والذي خرج من الدور الأول ـ واستقبلونه استقبال الأبطال، ووعد المسئولون الشعب المصري بالوصول إلى نهائيات كأس العالم، في ذلك البلد الذي أصبحت فيه الرياضة مجالاً خصبًا جاذبًا للطاقات السياسية والشعبية، وتفاوض الدولة حاليًا اتحاد كرة القدم في مصر لشراء حقوق بث الدوري العام لكرة القدم؛ حيث وصل سعره إلى أكثر من نصف مليار جنيه مصري، بعد أن أصبحت الرياضة من أهم المنتجات الشعبية من المحيط إلى الخليج، وتتهافت أكبر الشركات على بث الإعلانات أثناء المباريات، وأصبحت الرياضة سلعة استراتيجية بسبب جمهورها العريض والمسمّر أمام شاشات التلفاز بحثًا عن أي انتصار حتى لو كان رياضيًا.
ومن ناحية أخرى سمحت الدولة المصرية بقدر كبير من التسامح تجاه تجاوزات الرياضيين وعلى رأسهم الرئيس السابق لنادي الزمالك والذي هدد بأنه سوف "يولع مصر" بل وسب رئيس الوزراء نفسه، ولم يسلم من لسانه المسئولون في الحكومة المصرية من صغيرها إلى كبيرها، واستغرب الجميع: لماذا هذا القدر من التسامح من الحكومة ضد تلك التجاوزات من رئيس نادي الزمالك ضد رموز الدولة؟ في حين لا تمارس الحكومة القدر ذاته من التسامح ضد أي من المعارضين السياسيين سواء من الليبراليين أمثال أيمن نور أو من الإسلاميين أمثال الإخوان المسلمين؟ وفي الوقت الذي لا يسمح فيه بخروج التظاهرات الحاشدة إلا فرحًا بفوز المنتخب وليس أبدًا من أجل أي هدف سياسي حميد أو خبيث؟ والإجابة بالقطع هي ذلك الدور الوظيفي الذي تلعبه الرياضة وبل ورموزها أيضًا في تسكين الشعوب العربية.
إن ما يحدث في إيران هو حراك حقيقي لشعب لم يكن همه الأكبر هو كرة القدم ولم يجزع لخروج منتخبه من تصفيات كأس العالم، لأنه كان مشغولاً حتى أذنيه بهدف آخر أسمى يقاتل عليه حتى الموت، وهو التنمية والمساءلة وتداول السلطة؛ حيث تعد الانتخابات في النظام الإيراني هي الوسيلة الشرعية للتغيير ولإصلاح المسارات الاقتصادية والسياسية، وفي سابقة هتف الشعب لأول مرة "الموت لخامنئي"، ويطمح الشعب الإيراني أن يحقق تنمية حقيقية وتقدمًا في شتى المجالات، بل وخرجت الأصوات مطالبة بالتحقيق في إهدار المال العام من حكومة نجاد ومليارات النفط التي ذهبت إلى التبشير بالمذهب الشيعي الذي يقمع طوائف الشعب الإيراني من السنة ومن العرب الأحوازيين داخل إيران ذاتها، بل ويقيم دولته ليس على أساس الدين الإسلامي، ولكن على أساس المذهب الجعفري وعلى أساس العرق الفارسي.
ويظل العرب حكامًا ومحكومين يقلبون أبصارهم يمنة ويسرة بين النموذجين: "السياسي" و"الرياضي"، فالساسة يخشون بالطبع من النموذج الإيراني بشقيه المذهبي والسياسي، كما خشي الملكيون العرب في الستينيات من النموذج الجمهوري الناصري ووقعت حرب اليمن التي شرذمت الأمة آنذاك ما بين ملكيين داعمين للإمامة وجمهوريين؛ لتفض "إسرائيل" الاشتباك في النهاية بنكسة 67 وباحتلال الأراضي العربية وعلى رأسها القدس. ويظل النموذج الرياضي يلعب دوره الوظيفي في تسكين الشعوب وتخديرها وإفراغ كبته الانتخابي والسياسي فيها، واللهث وراء الكرة في مختلف المسابقات التي تتوالد يومًا بعد يوم على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.
قد تمثل الرياضة تنافسًا شريفًا وقد تمثل أيضًا وسيلة لرفع الحالة المعنوية العامة للشعوب، فقد لعبت الرياضة دورًا سياسيًا في الكثير من الحالات مثل فرنسا التي نظمت كأس العالم وفازت به لتتحول الرياضة إلى وسيلة لتوحيد شراذم الشعب الفرنسي الذي جاء من مهاجرين من مختلف البلدان وكان الفريق الفرنسي ذاته يمثل خليطًا دينيًا وعرقـيًا يمثل ذلك الشعب، وكانت المشاعر الوطنية الفرنسية في أوجها في تلك الفترة، وهو دور محمود قد تلعبه الرياضة كوسيلة للترفيه ولرفع المعنويات، ولكن من غير المحمود أن تصبح الرياضة غاية وأن تفرغ فيها طاقات الأمة وأموالها وتخلب ألباب شبابها، في الوقت الذي نواجه فيه تحديات حقيقية على كافة المستويات السياسية والاجتماعية والتنموية والاقتصادية، ونظل بلا حراك مشدوهين لاهثين خلف منتخباتنا، تاركين وراءنا مسئولياتنا الجسام.. حتى تفيقنا نكسة ثانية.

0 comments:

Post a Comment