كاد الليبيون يضعون لَبِنَة مهمة في جدار العملية السياسية، والتي جاءت عقب انتخابات المؤتمر الوطني العام، الذي وقع اختيار أعضائه على "مصطفي أبو شاقور" المقرَّب من الإسلاميين؛ لشغل منصب رئيس الوزراء بعد منافسةٍ شرسة مع زعيم التحالف الليبرالي "محمود جبريل"- حتى فوجئت الساحة الليبيبة باندلاع أزمة الفيلم المسيء للرسول، صلي الله عليه وسلم، وما تلاها من تداعيات قصف صاروخي مكثف لمبنى القنصلية الأمريكية في مدينة بنغازي أسفر عن مصرع السفير الأمريكي لدى طرابلس "كريستوفر ستيفنز" وثلاثة دبلوماسيين أمريكيين، وهو الحادث الذي دعا واشنطن لإرسال تعزيزات عسكرية محدودة لحماية المصالح الأمريكية في ليبيا بعد أنْ طرحت الأمر على الحكومة الليبية، وفوجئت بعدم ممانعة من جانب طرابلس، وهو ما فُسِّر برغبة ليبية في احتواء الأزمة، وعدم إعطاء الفرصة لأي تصعيد من الجانب الأمريكي، لاسيما أنَّ مقتل السفير قد تحول لسجال سياسي بين الرئيس أوباما ومنافسه الجمهوري ميت رومني.
وأيًّا كانت صحة هذه الروايات؛ عن الكيفية التي وصلت بها عناصر المارينز إلى ليبيا، وما تردد عن أنَّها فوجئت بوابل من القصف المركَّز من قِبَل بعض المقاتلين الليبيين الساعين لتوصيل رسالة للجانب الأمريكي مفادها: أنَّه لن ينعم بإقامة مريحة في الأراضي الليبية في حالة إذا ما رغب في نوع من الوجود العسكري، حتى لو كان محدودًا على الأراضي الليبية، خصوصًا أنَّ واشنطن لم تُخْفِ يومًا رغبتها في امتلاك قاعدة عسكرية لها على الساحل الليبي؛ للاستفادة من طول مساحته الشاسعة البالغة 2800 كيلو مترًا على المتوسط بشكل يؤمِّن لها وضعًا إستراتيجيًّا لها في إطار الحرب على الإرهاب، ومطاردة المناوئين لها في دول الساحل وأجزاء من الصحراء؛ في ظل توتر الأجواء في مالي، وحاجة واشنطن للوجود في هذه البقعة المهمة من العالم.
فلول القذافي
وإذا كان المجلس الانتقالي الليبي قد أعرب مرارًا عن رفضه لأي وجود عسكري غربي على الأراضي الليبية إبَّان الثورة على القذافي، وهو ما تكرَّر على لسان مسئولين بالمؤتمر الوطني العام- فإنَّ واشنطن قد تستغل هذه الأحداث للحصول على مكاسب منها: السماح لها بمطاردة منتمين لتنظيم القاعدة أو غيرها من التنظيم الراديكالية الجهادية، التي سارعت واشنطن باتهامها في التورُّط في اغتيال السفير، رغم أنَّ مسئولين ليبيين- وفي مقدمتهم يوسف الشريف، نائب وزير الداخلية- كان اتَّهم من أسماهم "فلول القذافي" بالوقوف وراء هذه الأحداث؛ انتقامًا لقيام موريتانيا بتسليم آخر مدير للمخابرات في عهد القذافي، وهو عبد الله السنوسي، وهي الرواية التي لم تستند لأدلة قوية تعضدها، خصوصًا أنَّ البعض اعتبرها رغبة من الحكومة الحالية في النأي بنفسها والمقاتلين- الذين يلعبون الدور الأهم في بناء الحيش الوطني- عن عملية اغتيال السفير واقتحام القنصلية؛ رغبةً في تجنب أي ردود انتقامية من الجانب الأمريكي.
مفاجأة وتشكيك
غير أنَّ اتهام عناصر موالية للقذافي بالوقوف وراء الأحداث لم يستمر مفعوله طويلًا؛ حيث صدر بيان من تنظيم القاعدة في الشرق الأوسط يتبنى حادث مقتل السفير الأمريكي وثلاثة من الدبلوماسيين؛ انتقامًا لاستشهاد "أبو يحيى الليبي"، الرجل الثاني في تنظيم القاعدة، وهو طرح أثار موجة استغراب من جانب عدد من المحللين الذين شكَّكوا في امتلاك القاعدة لهذه القدرات، التي تتيح لها شنَّ هجوم في الغرب، في حين أنَّ قواعدها التنظيمية مستقرة في الخليج واليمن، خصوصًا أنَّ وفاة الليبي كانت- بحسب مصادر موثقة في القاعدة- قريبة جدًّا في مداها الزمني، في ظل احتياج عملية كهذه لقدرات واستعدادات، إلَّا أنَّ هذا لا ينفي أيضًا إمكانية ضلوع خلايا نائمة تابعة للقاعدة في شمال إفريقيا في الهجوم على مقر القنصلية الأمريكية في بنغازي.
ولم تقف الضجَّة حول هوية المتورط في عملية مقتل السفير عند هذا الحد؛ فرئيس المؤتمر الوطني العام "محمد المقريف" أكَّد تورط أجانب في هذه العملية، مشيرًا إلى أنَّ هذه العملية كانت مرتبة سلفًا، ولم تكن ردَّ فعل طبيعي على الإساءة للرسول- صلي الله عليه وسلم- بل إنَّه زعم أنَّ 50 عنصرًا دخلوا من الجزائر أو مالي؛ لإثارة الاضطرابات في ليبيا مستغلين حالةً من العجز عن تأمين هذه الحدود.
وهي أقوال تقاطعت مع تأكيدات مسئولين ليبيين بعدم امتلاك البلاد لطائرات قادرة على مطاردة المتسللين من الحدود مع بلدان الجوار، مع التشديد على حاجة قوات الأمْن الليبية لتأهيل وتطوير؛ لتصبح قادرة على صدِّ مثل هذه العمليات.
محاولة الرئيس المقريف النأي بالمواطنين الليبيين عن عملية تصفية السفير الأمريكي، ومطالبته واشنطن بأنْ تبتعد عن التدخل المباشر في التحقيقات التي تجريها السلطات الليبية، ومعتبرًا أنَّ إرسال محققين من مكتب التحقيقات الفيدرالي إلى ليبيا- يعتبر سابقًا لأوانه، رغم أنَّها وصفت بالمناورة الجيدة.
إلَّا أنَّ الحديث عن تسلل مقاتلين من بلدان الجوار يفتح الباب بشكل كبير للجانب الأمريكي للتدخل في الشأن الليبي، وممارسة ضغوط على الحكومة القادمة؛ لتقديم تسهيلات لطائرات أمريكية بدون طيار لاستهداف أطراف راديكالية معادية لواشنطن، في تكرر للسيناريو الأفغاني اليمني.
ثقة مفقودة
ويزيد من هذا الاحتمال أنَّ الثقة بين واشنطن والأجهزة الأمنية الليبية تكاد تكون منعدمة، سواء لافتقاد هذه الأجهزة الكفاءة والقدرات الكفيلة بالقيام بأدوارها، أو لهيمنة الإسلاميين الذين تم دمجهم في هذه القوات عقب سقوط نظام القذافي، وهو ما سيدعو واشنطن للاعتماد على قدراتها لاستهداف الْمُعادِين لها، بغض النظر عن مخاطر ذلك على استقرار البلاد وسلامها الاجتماعي؛ باعتبار أنَّ أي تسهيلات تقدَّم للجانب الأمريكي لن تجد أدنى قبول لدى الإسلاميين، الذين سيعمدون قَضَّ مضاجع هذه الحكومة، وإثارة المتاعب في وجهه في وقتٍ تحتاج حكومة أبو شاقور لدعم جميع الليبيين في ظل التحديات الشديدة التي تجابهها.
بل إنَّ الضغوط الأمريكية على طرابلس، واتهامها بالتقصير في حماية قنصليتها في بنغازي- دفع المؤتمر الوطني العام لإصدار قرار بإقالة اثنين من كبار قادة الأجهزة الأمنية، في إشارة لجديتها في مطاردة الجناة، وهي رسالة ترجو طرابلس أنْ تجد آذانًا صاغية لدى واشنطن، وحثها على تخفيف ضغوطها على الحكومة الليبية؛ لتقديم تنازلات لها بشكل يجنبها الإحراج، أو يدفعها للدخول في مواجهات مع الإسلاميين، أصحاب الغلبة على المشهد السياسي الحالي، بل إنَّ طرابلس قد تسعى لإرضاء واشنطن بنصيب كبير في كعكة الإعمار أو الاستثمارات النفطية؛ لكفِّها عن القيام بأي عملية انتقامية ضد متهمين متوقَّعين بالتورط في مقتل السفير، وهو ما يُعَدُّ مخاطرة قد لا تقبلها واشنطن حاليًّا.
ولكنْ، هل تنجح ليبيا في إقناع الولايات المتحدة بالقبول- بأي إغراءات- للتراجع عن القيام بعمليات انتقامية ضد المتورطين في أحداث القنصلية الأمريكية في بنغازي؟، لاسيما أنَّ كل المؤشرات أكَّدت جدِّية واشنطن في القيام بعمل عسكري محدود، بعد التقاطِ طائرةٍ أمريكية بدون طيار صورًا داخل المدينة وفي محيط السفارة؛ لأهدافٍ تابعة لمن أطلقت عليهم واشنطن "عناصر جهادية متطرفة"، خاصة في مدينة "درنة" التي تعتبرها واشنطن معقلًا لمقاتلين تابعين للقاعدة استغلوا المشاعر الغاضبة لتصفية الحسابات مع واشنطن- بحسب الرواية الأمريكية-، وهي فرصة قد لاتتنازل عنها إدارة أوباما، التي واجهت انتقادات لاذعة من قِبَل معسكر الجمهوريين حول سبل معالجتها للأزمة؛ أدَّت لتراجع شعبية ساكن البيت الأبيض بشكل غير مسبوق طوال السنوات الأربعة الماضية.
ساحة صراع
لذا فالأوضاع تبدو ضاغطة على جميع أطراف الأزمة؛ فالحكومة الليبية تواجه مأزقًا شديدًا؛ فهي ليست قادرة على إغضاب الأمريكيين لحاجتها الشديدة لهم لتسويق أوراقها دوليًّا دون أنْ تقدم تنازلات لـ"أبناء العم سام" تؤثر على صورتها أمام الرأي العام الليبي الرافض بشكل كلاسيكي لأي وجود أجنبي على أراضيه، أو انتهاك سيادته بشكل أو بآخر، وفي الوقت نفسه لا ترغب في الدخول في مواجهة مع الإسلاميين الذين سيتبنون موقفًا رافضًا على طول الخط لأي أنشطة عسكرية أمريكية في الداخل الليبي، بل إنَّهم سيسعون لاستهداف الطائرات والمصالح الأمريكية على حدٍّ سواء؛ انتقامًا لأي ضربات أمريكية وإلى أنْ تنجح الحكومة الليبية للوصول لحل توافقي مع الأمريكيين فإنَّ الساحة الليبية تبدو حبلى بجميع الخيارات؛ باعتبارها ستكون من إحدى حلقات حسم السباق الديمقراطي - الجمهوري للبيت الأبيض.
موضوعات ذات صلة
اخر ما نشر فى سواح اون لاين |
هنا لندن |



















0 comments:
Post a Comment