Saturday, March 13, 2010

العناية المخففة والبطش المركز ،، محمد عبد الحكم دياب



رقد حسني مبارك خمسة أيام في غرفة العناية المركزة في مستشفى هايدلبرغ الألماني، وهي مدة كافية تدلل بأن الأمر لم يكن وعكة عابرة أو ألما طارئا، وهذا أعاد إلى الأذهان التأكيد على طرق التعامل مع المسؤول العربي، كمخلوق من طينة غير طينة البشر. يختلف عن أولئك الذين يولدون ويصِحّون ويمرضون ثم يموتون.
وهناك صنف من المسؤولين العرب يتعاملون مع الحياة وكأنهم مخلدون، ومع أنفسهم وكأنهم من جنس أسمى وأرقى. والمسؤول الذي ينسى طبيعته يتحول إلى كائن شيطاني. يملك السلطان والجاه والثروة والقدرة على التنكيل وإزهاق الأرواح. هذا الوصف لا علاقة له من قريب أو بعيد بأي شماتة في المرض أو الموت، وأساسه محاولة لاستعادة الوعي بطبيعة الإنسان وحدود طاقته وقدرته على تحدي وقهر المرض ومواجهة جلال الموت. ومع أي منهما يحتاج الأمر إلى كثير من التأمل وقليل من التسرع. خاصة مع حسني مبارك، الذي يجسد كل معاني الشذوذ في التاريخ السياسي العربي. بسبب ما فيه من قسوة وغلظة، وقدرة فائقة على البطش، وطاقة خارقة على إلحاق الأذى بالناس. ولسوف يدخل التاريخ من أضيق أبوابه. لقد تسلم مصر بلدا واحدا موحدا، وعلى وشك أن يتركها طوائف ومذاهب وشيعا، وانتقل إليه حكم دولة يتطلع شعبها ويسعى إلى بناء دولة القانون والمؤسسات، ويغادرها وهي محتقنة مهددة بالتقسيم. تعاني من الذل وضياع المكانة وفقدان الدور. وكان لها نظام جمهوري رئاسي محدد المعالم والقسمات، وانتهى بها شركة مملوكة لعائلة وأصهارها وشركائها وعدد من الأتباع والأغوات وسادتهم من الأجانب. كانت مصر مستقلة وانتهت مستعمرة أقرب إلى جمهوريات الموز.
المتأمل يجد أن حسني مبارك نجح في قتل السياسة، وكان في نفس الوقت يشيّع النظام الجمهوري إلى مثواه الأخير، وينقله إلى اللانظام والعشوائية الخاصة والعائلية، وكان من الطبيعي أن تكون نهاية هكذا وضع هو التوريث. وفي ظل هذه الحالة العشوائية لا يضير المواطن فيها صحة المسؤول أو مرضه أو حتى موته. فالحاكم الذي يتصرف في وطن على أنه عقار، ويتعامل مع المواطن باعتباره قنا، فإن اللعنة تحل عليه من كل جانب، وأم اللعنات وأخطرها هي لعنة التوريث، وظهور جمال مبارك كأبرز تجلياتها. لعنة حلت بكل هذا اللانظام العشوائي، وكل من يمت له بصلة. بعلاقة الدم بين العائلة المالكة، أو بقرابة النسب بين الأصهار، أو بزواج السلطة والمال والفساد والصهينة. وكانت أبشع صورها مجزرة ايار/مايو 2005 ضد المحتجين على الاستبداد والتزوير والفساد والتوريث. ما جرى لهم من انتهاك لأعراضهم وسحلهم في الشوارع. شيء لا مثيل له في التاريخ المصري الطويل والعتيق. ويظهر لنا أن وراء ذلك علاقة عضوية وحميمة بأركان الدولة الصهيونية ورموزها، وصلت من القوة درجة أدت إلى عقد صفقة غاز بسعر شبه مجاني، وإلى دعم الخزينة المصرية للمجهودين الاقتصادي والعسكري للدولة الصهيونية، وفي شكل تواطؤ مشترك في محرقة غزة، واستمرار قتل مواطنيها، بالحصار والتجويع والملاحقة. ومنذ 2005، ووفاء لضحايا هذا الحكم الذليل العاجز كان ضروريا تجريد حسني مبارك من صفة الرئيس. شتان بين رئيس يأتي بإرادة الناس، وآخر يجثم على صدورهم وجثثهم ويبني مكانته على أشلائهم. وما حدث للمحتجين في ذلك اليوم الأسود يفرض علينا جميعا ألا ننعت حسني مبارك بالرئيس، ولا يجب الاستهزاء بهذه الدعوة، فهي تمثل أضعف الإيمان.. مبارك لا يمكن أن يكون رئيسا، ولا يعدو كونه جلادا يحرك وحوشا سادية موزعة على أجهزة الإدارة والأمن، وفي شركات وبين جماعات رجال المال والأعمال، ووسط فرق البلطجة، ومن مسؤولي الحزب الحاكم، وأثرياء التطبيع والصهينة. وجميعهم فرض نفسه بقوة الأمر الواقع وضد إرادة الناس.
وعن المرض ودخول حسني مبارك - مصحوبا بعائلته - مستشفى هايدلبرغ الألماني. كانت وكالة أنباء الشرق الأوسط الحكومية قد ذكرت الأربعاء الماضي أن حسني مبارك غادر وحدة الرعاية المركزة إلى غرفة عادية بالمستشفى بعد أن أجريت له عملية جراحية ناجحة لاستئصال الحوصلة المرارية . هذا ما ذكرته وكالة الأنباء الرسمية، أما شرح طبيب عربي أمريكي يقول: أن الورم الذي تم استئصاله من الاثني عشر، يرجح كونه سرطانا في الامعاء الدقيقة، واعتبر أن ما نشر رسميا غير كاف لتأكيد طبيعة ذلك الورم، فهو من وجهة نظره يحتاج الى اختبارات اخرى تستغرق عدة ايام. واستغرب ألا يكون اطباء مصر قد عرفوا بوجود هذا الورم وطبيعته قبل سفره الى المانيا، بالنظر لوجود خبراء بينهم في هذا المجال يتمتعون باحترام واسع على مستوى العالم.. وأضاف أن ورم الاثني عشر، الذي وصفه وزير الصحة المصري بالزائدة اللحمية ، وحقيقته هي حدوث ورم بالامعاء ، و يشكل الاثني عشر الجزء الاول منها، و يؤدي الى الام حادة، وقد يعيق مرور الغذاء اذا كان بكمية كبيرة، ومن اعراضه وجود دم في البراز . وتأكدت شكوك الطبيب العربي الأمريكي بأن الذي رأس الفريق الطبي المعالج هو الجراح ماركوس بوشلر، و يعد أحد أهم أطباء العالم في جراحات البنكرياس والكبد والجهاز الهضمي، والرئيس الأعلى لقسم الجراحات الباطنة وزرع الأعضاء . أي أن الجراحة لم تكن بالبساطة التي أعلن عنها الإعلام الرسمي. وإلا كانت أجريت في مستشفى من مستشفيات مصر بدلاً من السفر للخارج وصرف تلك المبالغ الطائلة . والرأي الطبي مرجح على الزيف الإعلامي أو الإعلاني الرسمي، ووُصِفت المعلومات المموهة عن الجراحة بالشفافية، والبعض قال إن مجرد الإعلان عن مرض حسني مبارك يعتبر في حد ذاته شفافية. فما زالت أخبار مرضه سرا من الأسرار الكبرى التي لا يتم البوح بها!
ومن المفترض أن مرض شخص وخضوعه لعملية اقتضت وجوده بغرفة العناية المركزة لمدة خمسة أيام كاملة، وهي مدة طويلة يعرفها كل من أجرى عمليات كبيرة نسبيا. وأن تمتد الإقامة في العناية المركزة هذا الوقت معناه أن الأمر تجاوز حدود الزائدة اللحمية التي ذكرها وزير الصحة. والمريض في هذه الحالة يكون في أضعف حالاته الجسدية والنفسية، وفي فترات الوهن نجد أن الأسوياء من المسؤولين، ممن هم في مستوى البشر، يعيدون التفكير والنظر فيما اقترفوه وفعلوه في حق الشعب وفي تعاملهم مع الحياة. وكان من الملفت أن حسني مبارك بعد أن أصدر قراره قبل السفر بمنع المسؤولين من المغادرة للخارج حتى عودته، بدا وكأنه يستعرض قبضته الحديدية وهو في طريقه إلى المجهول. ويشير لجلاديه ألا يرحموا أحدا في غيابه. وهو ما حدث بالفعل. حيث جرى تعذيب أحد مؤيدي محمد البرادعي، المرشح المحتمل في الانتخابات الرئاسية في العام القادم، وحسب ما جاء في صحيفة 'المصري اليوم'. عدد الأربعاء الماضي، ونقلا عن المحضر الذي تحرر لطه محمد عبدالتواب محمد، أخصائي العلاج الطبيعى، وفيه يقول أنه استُدعي لمقر مباحث أمن الدولة، (وهي مقرات عبارة عن سلخانات) مساء الاثنين الماضي، وقتها كان حسني مبارك يرقد في المستشفى الألماني غائبا عن الوعي، وبعد أن سأله ضابط أمن الدولة عن دوره في حملات تأييد البرادعى فى مركز سنورس بالفيوم (جنوب غربي القاهرة)، وعن مشاركته في أي مؤتمرات بهذا الخصوص، ودعوته لحماية الأقصى . بعد السؤال انهال عليه بالسب والقذف بألفاظ بذيئة وخادشة للحياء، وبعد أن اعتدى عليه بالوحشية المعهودة أمر عددا من عناصر الشرطة السرية بتجريده من ملابسه، وتهديده بهتك عرضه، وبتعليمات منه استمر محتجزا مجرداً من ملابسه إلى ما بعد منتصف الليل، ثم ألقي به على الطريق العام، وعثر عليه الأهالي قبل صلاة فجر اليوم التالي في حالة يرثى لها. وتوجهوا به إلى المستشفى، فاحتجزته لسوء حالته، ولجأ المجني عليه إلى الإضراب المفتوح عن الطعام لحين إحالة الضابط المسؤول عن إهانته وتعذيبه إلى النيابة . وأثناء ذلك ساءت حالته مرة أخرى، فدخل غرفة العناية المركزة لإنقاذه .
ولم يسلم الأطفال والتلاميذ من التنكيل. قامت مباحث أمن الدولة في الاسماعيلية على الضفة الغربية لقناة السويس بهذه المهمة. رفضت التصريح لعدد من أطفال وتلاميذ المدارس الابتدائية والإعدادية بزيارة الموقع الذي استشهد فيه فخر العسكرية العربية الحديثة، عبد المنعم رياض. سحبت الأوراق الثبوتية والرخص من سائقى الحافلات، واضطرتهم إلى الفرار بحافلاتهم وبها الأطفال والتلاميذ، وكان هذا إعلانا صريحا لأطفال مصر وأولياء أمورهم بأن مصر لم تعد وطنهم، وأضحت أرضا يرتع فيها الصهاينة، من أقصاها إلى أقصاها. بداية من طابا في أقصى الشرق إلى مقبرة أبو حصيرة في ديمتيوه بمحافظة البحيرة أقصى الغرب. محظور على أبنائها زيارة معالمها الوطنية والتاريخية، وممنوع عليهم التجول في مدنها بحرية.
ومن جهة أخرى وفى ذكرى ذلك الشهيد العظيم يعلن صفوت الشريف، الأمين العام للحزب الحاكم رفض حزبه تغيير المادة 67 التي تُقصر الترشيح الرئاسي على حسني مبارك وولده، في حديث له يوم الثلاثاء الماضي، وأنكر وجود نية لإجراء أي تعديل دستوري. وتأكيده على تمسك الحزب الحاكم بترشيح مبارك الأب، لكونه الضمانة الوحيدة في استقرار البلاد والمضي في عملية البناء ، على حد تعبيره. ويتبين لنا أن سلالة 'البوربون' المصرية لا تتعلم ولا تتعظ، وتزيد الرأي العام استفزازا ساعة بساعة ودقيقة بدقيقة. وأدت تصرفاتها إلى ذلك المخاض العسير، الذي قد يطلق العنان لعملية تغيير واسعة، أو يفاقم من مستوى العناد والوحشية. فالحكم وهو يقاوم التغيير يجد لذة في التنكيل والبطش بالناس، ولديه ما يغريه، في هيئة ترسانة بوليسية باطشة . تفوق في عددها وعدتها قوات الأمن الصينية، التي لم تتجاوز عدد المليون ونصف المليون شرطي ورجل أمن، حسب ما ورد في صحيفة 'الاندبندت أون صنداي' الاسبوعية الشهر الماضي، وهي قوات كافية لتوفير الأمن لما يربو على المليار ونصف مليار نسمة، بينما لا يتعدى عدد سكان مصر ثمانين مليون نسمة يحشد حسني مبارك لقهرهم والتنكيل بهم مليون وسبعمائة ألف شرطي ورجل أمن، وهي المرة الأولى التي تتفوق فيها مصر على الصين في شيء!


Image and video hosting by TinyPic

0 comments:

Post a Comment