Friday, March 21, 2008

الاطار التاريخى للخلاف السورى السعودى ،،،،،،بقلم دكتور خالد الدخيل


إذا كانت المؤشرات الأولية للخلاف السعودي السوري الحالي بدأت بالظهور في عام 2004، فهذا يعني أن الإطار التاريخي للخلاف محصور في الفترة الممتدة من عام 2000 وحتى الآن. ما بين 1970 و2000 لم تشهد علاقات سوريا والسعودية أي خلاف خارج ما هو متعارف عليه بين الدول الصديقة


ليس واضحاً تماماً متى بدأ الخلاف الحالي على وجه التحديد. ربما كانت بدايته قبل 2004، لكن المؤكد أنها لم تكن بعد ذلك. سياق الأحداث يقول إن ما حصل بعد ذلك يضيف إلى تعقد الخلاف وليس إلى بدايته. السؤال في هذه الحالة: ما الذي حدث خلال هذه الفترة ويمكن أن يفسر انفجار الخلاف على نحو ما هو حاصل الآن؟ ما حصل من أحداث خلال هذه الفترة القصيرة كثير، لكن ما يهمنا ما له علاقة مباشرة وفاعلة بالخلاف، وبداياته. هناك معيار مهم للقياس هنا. إذا كانت العلاقات السعودية السورية استطاعت خلال أكثر من 35 سنة أن تستوعب كل ما حصل من أحداث جسيمة، وأن تضع كل الاختلافات في المصالح والرؤى أمام تلك الأحداث تحت سقف المصالح المشتركة للبلدين (أنظر مقالة الأسبوع الماضي)، فهذا يعني أن القيادة في البلدين كانت ترى أن العلاقة بينهما تمثل مصلحة عليا توجب إخضاع أية خلافات قد تطرأ لحدود هذه المصلحة ومقتضياتها، وعدم السماح لها بتجاوز هذا السقف. وإذا كان هذا صحيحاً، والأغلب أنه كذلك، يكون انفجار الخلاف في السنوات الأخيرة يؤشر إلى تغير ما حصل على هذا المستوى، أو مستوى الرؤية السياسية لدى القيادة في أي من البلدين أو كليهما معاً، وأثر هذا التغير على العلاقة بينهما، وموقع العلاقة في السياسة الخارجية في الرؤية الجديدة.
عندما يحصل تغير بهذا الحجم والأهمية فإنه يعكس بالتالي تغيراً مقابلاً وبالحجم نفسه في سياسة الدولة، وربما في أهدافها الاستراتيجية. دائماً هناك ظروف وعوامل تؤدي إلى مثل هذا التغير، ومن ثم تقدم نفسها لتوفير التفسير المطلوب. في حالة الخلاف السعودي السوري هناك حقيقة تحظى بشبه إجماع، وهي أنه خلاف حصل على خلفية الوضع السياسي اللبناني: التمديد القسري من قبل سوريا للرئيس السابق إميل لحود، ثم بعد ذلك الأزمة الكبيرة التي فجرها اغتيال رفيق الحريري. إصرار القيادة السورية على فكرة التمديد في وجه كل أشكال المعارضة المحلية والعربية والدولية يوحي بأن التمديد كان يمثل بالنسبة لها أمراً حيوياً وخطيراً يستحق المقامرة. يقال إن أحد الوسطاء قال للرئيس بشار الأسد بعد فشله في إقناعه بالتخلي عن فكرة التمديد "أنتم ذاهبون إلى مقامرة تصل إلى درجة الانتحار"، فرد بشار: "انتحار بالتمديد أفضل من انتحار من دون تمديد". إذا كانت هذه الرواية صحيحة فإنها توحي بأن قيادة النظام السوري كانت تشعر آنذاك بأنها تمر في مرحلة خطيرة، ما يجعل من المقامرة خياراً مقبولاً. من الصعب الجزم هنا، لكن الأكيد أنه كانت هناك مبررات للقلق على الجانب السوري، والأكثر تأكيداً أن القيادة السورية تصرفت بارتباك واضح أمام تلك المبررات، وخاصة قرار التمديد والطريقة التي تم بها. كان الهدف من التمديد الاحتفاظ بحليف مستعد لتوفير الغطاء السياسي لبقاء سوريا أمنياً وعسكرياً في لبنان. الذي حصل كان على العكس من ذلك تماماً. فالأحداث أجبرت سوريا على الخروج من لبنان، ولحود أصبح رئيساً مشلولاً بسبب عزلته نتيجة للتمديد.
مبررات قلق السوريين مرتبطة بتزامن تغير القيادة في دمشق وما أفرزته من معارضة في الداخل من ناحية، مع تحولات وتغيرات كبيرة كانت تعتمل على المستويين الإقليمي والدولي وتشكل تهديداً من الخارج، من ناحية أخرى. تغيرت القيادة السورية بعد وفاة الأسد الأب ووراثة ابنه بشار للسلطة من بعده عام 2000. أما التغيرات في الخارج فأبرزها خمسة، كانت تمثل تطورات مهمة ومتداخلة في تأثيرها على الموقف السوري، وبالتالي على العلاقات بين سوريا والسعودية، وهي من دون ترتيب كما يلي. في العام 2000 نفسه الذي تسلم فيه بشار الأسد السلطة، فاز بوش الابن في انتخابات الرئاسة الأميركية، مدشناً بذلك هيمنة تيار "المحافظين الجدد" على السياسة الخارجية الأميركية. عام 2001 حصلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والتي على خلفيتها تبنت الولايات المتحدة سياسة هجومية في المنطقة تحت ستار الحرب على الإرهاب. في لبنان الذي كان يخضع لهيمنة سوريا من خلال تواجدها العسكري والأمني والسياسي هناك، بدأت تظهر على السطح مؤشرات على تبلور تيار ينادي بضرورة تغيير العلاقة مع سوريا بطريقة يستعيد بها لبنان استقلاله، وتحفظ لسوريا مصالحها. التطور الأهم والذي ربما كان الأخطر في هذا السياق كان الغزو الأميركي للعراق تحت مظلة الحرب على الإرهاب، وهو الغزو الذي أدى إلى إطاحة النظام وتدمير الدولة هناك، وإلى سقوط البلد رهينة للاحتلال والحرب الأهلية. وأخيراً كانت عملية اغتيال الحريري، وهو تطور اتضح أنه لا يقل خطورة بالنسبة لسوريا عن احتلال العراق، وتحول أميركا إلى الجار الجديد لدمشق.
ما علاقة كل ذلك بالخلاف السعودي السوري؟ وما الذي يجمع بين كل تلك الأحداث؟ يجمع بينها أنها حدثت تقريباً خلال فترة زمنية قصيرة، وبعضها حدث في السنة نفسها. وهي تطورات مجرد حدوثها، وتداخل بعضها ببعض، يمثل المصدر الأول لقلق القيادة السورية الجديدة. ثم إن حدوثها في فترة قصيرة شكل بدوره عامل ضغط إضافي على دمشق. وراثة بشار لرئاسة الجمهورية من أبيه، مثلاً، كانت عملية صعبة ومعقدة أخذ الإعداد لها من قبل الرئيس الراحل حافظ الأسد ست سنوات منذ وفاة المرشح الأول للوراثة، باسل الأسد. مصدر القلق أن ما تم التحضير له كان سابقة من حيث توريث الحكم من الأب للابن في نظام جمهوري. ولأنها كذلك ربما تسببت بشيء من الارتباك، واستثارت الكثير من الاحتجاج داخل النظام. كانت هناك معارضة قوية لفكرة التوريث من العديد من رموز الحرس القديم مثل علي أصلان، وحكمت الشهابي، وعبدالحليم خدام، وغيرهم. الأخير غادر سوريا وأعلن انشقاقه على النظام. الحديث الآتي من دمشق يؤكد بأن بشار الأسد لم يمسك بزمام السلطة تماماً إلا في عام 2000. في هذا الوقت تحديداً حصل تحول السياسة الأميركية بمجيء بوش الابن إلى البيت الأبيض، في اتجاه سحب التفويض الأميركي لسوريا بالسيطرة على لبنان، ومطالبتها بنزع سلاح "حزب الله"، الحليف الأقوى لسوريا. جاء بعد ذلك الاجتياح الأميركي للعراق، وجاء معه زخم إعلامي كان يوحي بين الحين والآخر بأن دمشق هي الهدف القادم بعد بغداد. في هذه الأجواء كان التيار الاستقلالي موجودا في لبنان. من الطبيعي تحت مثل هذه الظروف أن تشعر القيادة الجديدة في دمشق بأنها مهددة من الداخل والخارج. ما كان غير طبيعي هو الطريقة التي اتبعتها هذه القيادة في إدارة أزمتها، خاصة في علاقاتها مع اللبنانيين، وبقية العرب، وبشكل خاص السعوديين. تعاملت مع الجميع، كما يبدو، بمنطق صدامي يأخذ منحى فرض الأمر الواقع على الجميع.
يوحي السلوك السوري حينها بأن القيادة في دمشق كانت مرتبكة. كانت في أمس الحاجة للورقة اللبنانية، ولعلاقاتها العربية، وخاصة مع السعودية ومصر، في مثل تلك الظروف. لكن سوريا تصرفت بما يوحي بعكس ذلك. يبدو أن القيادة السورية الجديدة كانت تحت شعور ضاغط بحاجتها الماسة أمام ضغوط الداخل والخارج أن لا تبدو ضعيفة، أو أنها في حاجة لأحد. جاءت هذه القيادة بعد حافظ الأسد الذي صنع النظام بما فيه القيادة التي ورثته. ربما أرادت هذه القيادة أن توصل للآخرين بأن شيئاً لم يتغير في سوريا. ليس هناك من تفسير آخر لكثير من الخطوات التي أقدمت عليها دمشق آنذاك: قرار التمديد للحود، والطريقة التي تعاملت بها مع حادثة اغتيال الحريري، خاصة وأنه تم تحت النظام الأمني السوري في بيروت، أو خطاب "أنصاف الرجال وأنصاف المواقف" الشهير. التفسير الآخر الممكن لتصرفات دمشق آنذاك أنها كانت تحاول أن تخفي شيئاً. في كل الأحوال اختارت دمشق أن تعتمد على إيران خلال أزمتها، خاصة في إدارة ملف لبنان. كل ذلك يمثل تحولاً في السياسة السورية، وهو التحول الذي على الأرجح فجر خلاف دمشق مع الرياض

0 comments:

Post a Comment