قبل حوالي عام حملت هذه الزاوية تعليقا بعنوان 'أيها العرب اشتروا الاندبندنت!'. وبما أن العرب مصرون دوما على أنه 'ليس لهم في الطيب نصيب'، حسب العبارة المصرية الشائعة، فقد أفادت الأنباء بأن المستثمر الروسي ألكسندر ليبديف هو الذي اشترى الاندبندنت، قبل حوالي أسبوع، فأنقذها بمثلما فعل قبل عام مع صحيفة لندن إيفننغ ستاندرد التي كانت ستعلن الإفلاس والإغلاق لو لا أنه اشترى أكثر من 75 بالمائة من أسهمها.
وكان التعليق المذكور قد اختتم بالاعتذار عن سذاجة هذه الدعوة الموجهة إلى قوم 'ليس لهم في العير ولا في النفير'، قوم هم في شغل شاغل عن الصحف الجادة والاستراتيجيات الإعلامية وكيفية توظيفها في خدمة القضايا الوطنية. إذ لم يكن الظن ليذهب بنا إلى أن انتزاع مثل هذا القرار - أي شراء الاندبندنت أو أي صحيفة غربية مرموقة- من غياهب المستحيلات هو من الأمور التي في متناول عرب هذا الزمان. فأنّى لقوم تقعد بهم الهمة عن أيسر الممكنات أن يجترحوا خوارق المعجزات. وما كان بنا من وهم بأن دعوة من هذا القبيل يمكن أن تعدو كونها 'صرخة في واد ونفخة في رماد'. فالأغلبية الساحقة من رجال الأعمال العرب لا يستثمرون في الإعلام. أما القلة القليلة التي تستثمر فيه فهي تكاد لا تستثمر إلا في القنوات الفضائية التي تبث بالعربية أو العامية والتي تتناسل وتتناسخ بالمئات حتى عادت لكثرتها وتشابهها وغثاثتها 'أكثر من الهم على القلب' في أسوأ الأحوال. أما في أفضلها فهي تبديد لمجال الأثير وتضييق لمساحة البث، بل 'مضيعة للمكان'، حسب العبارة الإنكليزية الشهيرة التي تطلق تهكما في إحالة ضمنية إلى 'مضيعة الوقت'.
هذه القلة القليلة من رجال الأعمال العرب التي لها اهتمام ما بالإعلام لا تستثمر إلا في قنوات التفاهة التلفزيونية.
أما النخبة التي تستثمر في قنوات الأخبار فإنها لا تفعل ذلك إلا في إطار تموقعات وتخندقات حزبية وطائفية ومذهبية أو في إطار تثبيت لعبة توازن الرعب: توازن رعب الكيد السياسي والتربص 'الأخوي'.
توازن رعب النكاية الإقليمية والوشاية 'الزبونية' لدى سلطة الحماية الأمريكية. ذلك أن المال الداعم للقنوات الإخبارية العربية ليس مالا استثماريا بل هو مال سياسي. صحيح أن من بين هذه القلة القليلة من رجال الأعمال العرب من تبلغ به الشجاعة أو النباهة درجة الاستثمار في الجرائد، مثلما حدث في بعض دول الخليج. وهذا في حد ذاته أمر محمود مبدئيا. إلا أنها جرائد لا تسمع صوت العرب، ناهيك عن أن تبلّغ رسالتهم، إلى العالم. ذلك أنها لا تستخدم إلا اللغة العربية ولا تخاطب إلا الناطقين بها. بحيث أن مزيّتها الكبرى لا تتجاوز إتاحتها لكثير من الأقلام العربية الجيدة فرصة تعبير قد لا تكون متاحة في بلدانها الأصلية. ولهذا فإن أكثر ما يلفت النظر في هذا النوع من الجرائد هي صفحات الرأي التي غالبا ما تتسم بالتنوع وأحيانا بالثراء.
لقد سبق أن أكدنا على أهمية الاندبندنت باعتبارها (مع الغارديان) أحد أبرز صوتين ليبراليين في بريطانيا، وباعتبار تفردها دون سواها بالمجاهرة، خاصة في شأن الكيان الإسرائيلي، بحقائق وفضحها لمظالم وجرائم يسكت عنها معظم الإعلام البريطاني.
أما ألكسندر ليبديف (الذي كان قد جاء إلى لندن في الثمانينيات في إطار عمله الاستخباري لدى كي جي بي!) فإن المنطق الذي يصدر عنه في شراء جريدة تبلغ خسائرها السنوية عشرة ملايين جنيه استرليني (ولو أن هذا ليس استثناء بين الصحف، إذ إن خسائر الغارديان مثلا لا تقل عن 36 مليون جنيه) هو المنطق ذاته الذي جعله ينقذ لندن إيفننغ استاندرد، فإذا بتوزيعها يزيد في عام واحد من 250 ألف نسخة إلى 600 ألف نسخة. وهو المنطق ذاته الذي جعله يشارك ميخائيل غورباتشوف ملكية 'نوفايا غازيتا'، إحدى الصحف المستقلة والجريئة القليلة في روسيا.
وقد كان اغتيال الصحافية آنا بوليتكوفسكايا عام 2006، عقب نشرها في 'نوفايا غازيتا' سلسلة تحقيقات عن الحملة العسكرية الروسية في الشيشان، من تبعات هذه الجرأة.
ولعل أبلغ تعبير عن هذا المنطق المدني والسياسي، الذي لا يترفع على مقتضيات الربحية وإنما يدرجها في إطار استراتيجية استثمار فكري بعيدة المقاصد، قول رئيس مجلس إدارة الشركة التي اشترت الاندبندنت يفغيني ليبديف (نجل ألكسندر) 'إني مؤمن أقوى الإيمان بقيمة الصحف الجادة وأهمية مراميها'، وقول والده إن 'الجرائد التي تنقل الأنباء باستقلالية وتجدّ في طلب الحقيقة إنما تقع في الصميم من المسعى إلى توطيد الديمقراطية والشفافية'.
0 comments:
Post a Comment