يبدو أن دراويش البرادعي تجاوزوا مرحلة الدروشة إلى مرحلة العصمة، بما أسبغوه على الرجل من تنزيه يحول دون مناقشة أفكاره وآرائه، وهي لم تزل في دائرة الأفكار العامة والآراء الملتبسة. لم ترق بعد إلى مستوى المشروع أو البرنامج. والدراويش عادة ما يكتفون بقراءة أوراد شيوخهم ومبايعتهم على السمع والطاعة.
وما يصلح للطرق الصوفية (ولا أقول التصوف) لا يصلح للسياسة أو العمل الوطني. لذا صاروا أكثر إثارة للجدل بما أهدروا من قيمة كانت من الممكن أن تحسب لشيخهم. بسبب ما أحدثه ظهوره من فورة ودفعه للحراك القائم في الواقع السياسي المصري، وهو يمور بإرهاصات في قاعِه أكثر حدة مما نراه على سطحه وتبدو عدوى الحكم وأمراضه قد أصابتهم، فيستعلون ويبالغون في الرهان على شخص البرادعي معزولا عما يحيطه من واقع فرض نفسه، وعلى ما فيه من شد وجذب بين الجماعات والأجنحة، ومن حاجته الماسة إلى توافق دقيق وحساس. يمكن مصر من عبور أزمتها المستفحلة بأقل خسارة ممكنة. مصر في غنى عن تحمل خيبات جديدة. يكفيها ما هي فيه من عزلة وفقدان للدور والمكانة، ومن إفقار وتجويع وإضعاف. مع عبء معارضة عاجزة ومتهافتة. وفي محاولة لإلقاء مزيد من الضوء على أمر البرادعي وفهم ظاهرته وما ارتبط بها. (وصف الظاهرة للصديق الأكاديمي المعروف يحيى القزاز، أحد قادة حركة كفاية). نحصرها فيما يلي:
أولا: أن الآمال التي تعلقت بالبرادعي.. بعيدا عن دراويشه.. كانت في محلها حين اعتبرته نقلة نوعية على طريق خيار غائب، بعد رسوخ خيارين لا ثالث لهما.. التوريث والإخوان.. وحُصرت المواجهة بين عائلة مبارك بالتوريث من جهة والإخوان المسلمين بالانتشار من الجهة الأخرى. وكانت الجماعة الوطنية تسعى لبلورة خيار ثالث يخرج مصر من مأزقها البالغ وأزمتها المستفحلة. وإذا بدراويش البرادعي يتعاملون معه وكأنه مطلوب لذاته وفي غنى عن الناس. وإلا ما تُرك معلقا في الهواء بلا تواصل شعبي. رأسي وأفقي. وإذا ما كان الحكم باستبداده وفساده وتبعيته قد نجح في فرض ذلك الخيار الثنائي جاء الإعلان عن نية البرادعي في الترشيح للانتخابات الرئاسية القادمة ليفتح الباب واسعا أمام ذلك الخيار، ولم يكن معنى ذلك قصر الخيار الثالث عليه وحده. وكان من الممكن أن يتبوأ البرادعي مكانته التاريخية إذا ما اتسع أفق دراويشه وجعلوا في الخيار الثالث متسعا للجميع ولحقهم في الترشيح كمستقلين.
ثانيا: كان المفترض أن يكون ظهور البرادعي تأكيدا على نهج نما واستقر في السنوات الخمس الماضية، أساسه التقليل من الرهان على الفرد، وهو سر تأثير الحركات الجديدة في الرأي العام. بدءً من “كفاية” وليس انتهاء بحركة 6 ابريل. عادت الروح للشارع المصري ودبت الحياة في شرايين الطبقة الوسطى. وكانت تحتضر. وتحول الشارع إلى ميدان للمنافسة الوطنية والمطاردات الأمنية وفرق البلطجة التابعة للحزب الحاكم، ومع ذلك وقع دراويش البرادعي في الفخ. ورأوا فيه منقذا دون حاجة لذلك العناء. حمل المنقذ المفترض مطالب حملتها حركات وقوى أخرى سبقته. منها من قال لا للتوريث وشد الرأي العام إليه، ورفض التمديد، ووقف مؤيدا كل تحرك وطني وقومي وجد فيه تصديا للاستبداد والفساد والتبعية والعدوان والصهينة. ووجد السند من فدائيي الصحافة والكتابة والإعلام. قضوا على الوعي المعلب والمزور، وكسروا العصمة المزيفة للحاكم وأفراد عائلته، فخرج المارد من قمقمه وعمت ظاهرة الاحتجاج العلني والجماعي، وصارت نهجا متبعا على امتداد مصر من أقصاها إلى أقصاها.
ثالثا: الخفة في التعامل مع الرأي العام تقليدا لليبراليين الجدد. قبلوا من شيخهم أن يقدم أوراق اعتماد يستحسنها الغرب. وتجاهلوا قطاعا عريضا من الرأي العام العربي. وانحازوا لنظرة الغرب لوقائع التاريخ العربي المعاصر. أدان شيخهم مجمل سنوات الثورة منقلبا عليها، وخلط عن عمد الثورة بالثورة المضادة ودمجها في حقبة واحدة. ليحظى برضى واشنطن ويحوز قبول تل أبيب. وبذلك النهج يعود الاعتبار للتبعية والاستعمار والاحتلال والاستيطان في مصر والمنطقة والعالم. ولم يتورع عن وصف عبد الناصر بالطاغوت، مدعيا اضطهاده لوالده نقيب المحامين الأسبق. ونشر القاص يوسف القعيد في عدد الدستور المصرية الأسبوعي (الأربعاء 3/3/2010 كما جاء على موقع الفكر العربي الإلكتروني). نشر تلقيه اتصالا هاتفيا من د. حامد متولي يكذب ما ورد وينفي ظلم عبد الناصر لوالد البرادعي. وأشار إلى أن العكس هو الصحيح، وذكر أن الرجل كان مدللا وصاحب مكانة وحظوة في ذلك الوقت، والادعاء استفز شيخ التربويين العرب حامد عمار فوصفه بالكاذب، وقال إن وراءه أغراضا أخرى. ووصفت قوى وطنية وسياسية الإدعاء بالغباء السياسي، لضرره البالغ، وتأثيره السلبي على التوافق الذي قطعت فيه الجماعة الوطنية شوطا طويلا. وذكر معلقون أن الوصف لا ينتقص من مكانة عبد الناصر بقدر ما يحط من قدر البرادعي.
رابعا: المبالغة في الاعتماد على التأييد والتوكيلات الإلكترونية. واعتراف دراويش البرادعي بمصر الإلكترونية على حساب مصر الأخرى. وفي هذه الأيام تستعد بريطانيا.. الإلكترونية وغير الإلكترونية.. للانتخابات البرلمانية، ونسبة ما يستخدمون الوسائط الإلكترونية أضعاف أضعاف نسبتها في مصر، وتقوم حملتها الانتخابية على الاتصال والتحدث مباشرة إلى الناخب، أما الوسائط الإلكترونية تركز على بث المعلومات وشرح برامج المرشحين وهم يقضون أغلب وقتهم في الشارع وبين الناس. هنا فُهمت الوسائط الإلكترونية على أنها وسائل وليست بدائل. ورأي يحيى القزاز هنا يكتسي أهمية خاصة. لكونه من أبرز المتعاملين المباشرين مع الشارع دون وسيط. ولم يمنعه تميزه في استخدام شبكة البث الإلكتروني (الانترنت) من التواصل المباشر مع طلابه ومع المواطنين بلا تفرقة. قال معلقا على حملة التوقيعات الإلكترونية للبرادعي: “التغيير بحاجة إلى تضامن فعلي وحركة في الشارع وليس بحاجة إلى توقيعات.. لدينا خبرة كبيرة في حضور الاجتماعات مع شخصيات عامة وجمع توقيعاتهم، وعند الدعوة إلى وقفة أو تظاهرة تتبخر الأسماء الموقعة. المطلوب هو نزول البرادعي للشارع لكي يحتمي بالناس ويمنحونه مزيدا من القوة، وتحتمي الناس به وتتحرر من بطش السلطة وتزداد اقترابا منه ويزداد عددها. وعندما ينزل البرادعي الشارع ويلتحم بالجماهير ساكون أول من يقف خلفه ويدعمه، دفاعا عن التغيير السلمي، ومتغاضيا مؤقتا عن قناعات فارقة بيني وبينه في مفهوم الدولة وأمنها القومي، لأنه يوجد ما هو أهم ويجمعنا وهو القاسم المشترك في التغيير، فمتى ينزل البرادعي ويدعو لمؤتمر عام في احد ميادين القاهرة؟” ويبقى سؤال القزاز معلقا حتى إشعار آخر.
خامسا: تبني ذلك المطلب الطفولي بتفويض البرادعي على بياض. وهو لم يقدم ما يمكن أن يميزه بعد. يكرر مطالب غيره في تعديل عدد من مواد الدستور ضمانا لنزاهة الانتخابات وتجنبا للتزوير، ولا يمانع في طلب الرقابة الوطنية والدولية عليها. ومطلب التفويض المفتوح هو اللبنة الأولى في صناعة الطغاة!! وحتى المطالب المُكررة لم ترتق بعد إلى رفع لواء التغيير. باتساعه وشموله وعمقه، ويتشوق إليه الناس.. ورغم أي ملاحظات قد تسجل على الجماعات الجديدة فقد نجحت في تعبئة الرأي العام حول شعاراتها. ولم يكن نجاحها مجانيا، وأثبتت قدرتها على دفع الثمن. وبينت أن المطلوب أكبر من تغيير مادة أو أكثر من الدستور، ونحن معها ونؤيدها فيما تقوم به. التغيير الذي يطلبه ويقبل به الناس ليس استعادة نظام جمهوري رئاسي مختطف. حولته عائلة مبارك إلى حكم شخصي وعائلي وراثي، والمطلوب أن يتغير إلى جمهورية برلمانية. تعيد الاستقلال للوطن وتنشر العدل والمساواة بين المواطنين.
سادسا: الفهم السطحي لمغزى وقائع تاريخية بعينها، وإذا غاب الإنصاف بشأن ثائر وزعيم بحجم عبد الناصر، فقد تاهت الحصافة في النظرة لثورة 1952، يبقى من الطبيعي تسطيح الفهم حول ثورة 1919.. سعد زغلول لم يكن محاميا همه الحصول على توكيلات للدفاع عن موكليه. كان في قلب العملية السياسية، ولم يكن شخصا عاديا. كان منخرطا في حركة ومنتميا لجماعة. اتفقنا أو اختلفنا حوله، وقدر التشابه بين الاثنين محدود. زغلول والبرادعي ابنان للمؤسسة الرسمية. لم يتزحزح ولاء أي منهما عنها. كل في ظروف عصره. ودون هذا الشبه يأتي الافتراق. زغلول كان جزءا من عملية سياسية مال فيها ميزان القوى لصالح القصر الملكي والاحتلال وكبار الملاك. والبرادعي لم يتجاوز حدود الموظف الرسمي، استمر ابنا بارا للخط التقليدي في الخارجية المصرية، مثله مثل عمرو موسى وأحمد أبو الغيط. ولو لم يكن محسوبا على هذا الخط ما وصل لمنصبه السامي في الأمم المتحدة!. ودور زغلول في العملية السياسية، اعتمد على انتمائه لحزب الأمة المهادن ولولا قربه من دوائر الحكم ما شغل منصب ناظر (وزير) الحقانية (العدل)، ولا نال عضوية الجمعية التشريعية (أشبه بالبرلمان)، إلى أن صار وكيلا لها. ارتفعت أسهمه من تصدي حزبه للحزب الوطني (غير حزب مبارك وابنه)، ومواجهته لمصطفى كامل ومحمد فريد المحسوبين على تيار الجامعة الإسلامية، غير القابل بالمساومة على قضية الجلاء، فسُمي بحزب الجلاء. وبتطبيق المعايير المعاصرة يمكن توصيفه بالحزب العروبي الإ سلامي المعاصر لاحتضار وسقوط الامبراطورية العثمانية. انحاز حزب الأمة لتيار مصر للمصريين، الذي انتهى تيارا انعزاليا شوفينيا على يد الأحرار الدستوريين، وزعامة أحمد لطفي السيد، وكان مع تحجيم مصر وحصرها داخل حدودها وربطها عضويا بأوروبا. وحين وضعت الحرب العظمى أوزارها تطلعت الأنظار إلى مؤتمر الصلح في باريس، وإلى مبادئ الرئيس الأمريكي ويلسون. بادر وفد من أعضاء الجمعية التشريعية والأعيان (الوجهاء) وحمل مذكرة تلخص مطلبي الاستقلال والدستور. لم تسمح له سلطات الاحتلال بالسفر ، وتطور موقف زغلول بسبب عضويته في الوفد المكلف بهذه المهمة، وهو الوفد الذي يتحول إلى حزب فيما بعد. لم تصنعه توكيلات معتمدة من سلطة الاحتلال، بقدر ما كان يحمل تفويضا صنعه تحرك شعبي ولم تصنعه مكاتب الشهر العقاري. وكان تلخيصا للعرائض الوطنية، التي حددت له ولزملائه دورهم ومهمتهم، شدوا زغلول إليهم، ونزل معهم إلى الشارع، وتحول إلى أهم رمز للثورة التي تمكنت من الحصول على صك الاستقلال الإسمي (4 شباط/ فبراير 1922) وصاغت دستور 1923
0 comments:
Post a Comment